محمد العلي
محمد العلي من الحوزة العلمية إلى ريادة الحداثة
شاعر الماء و«الأدب اليقظ»
يعتبر محمد العلي أحد رواد الحداثة في السعودية. وهو اليوم، وقد بلغ الرابعة والسبعين من العمر يبدو اكثر تفاؤلاً من ذي قبل بالحركة الأدبية في السعودية التي يتابعها عن كثب. مساره وحده يشي بما عنده من تصميم وصرامة ورؤية حاذقة إلى المستقبل. شاعر لا يطبع دواوينه، ولا يروج لريادته، ويترك للآخرين ان يبحثوا عنه بين هذا القليل من الشعر الذي ينشره في الصحف.
سؤال واحد يظل يلحّ على من يقرأ السيرة الذاتية للكاتب محمد العلي: أي قدرة كان يمتلكها، كي يقنع والده بترك دراسته في الحوزة العلمية والدينية في النجف الأشرف والانتقال إلى دراسة الأدب واللغة، وهو ينتمي إلى مجتمع يحمل التقدير والاحترام لطلبة الدين، وينظر لرجل الدين بكثير من التفوق والتفرد والهيبة. أي قدرة لشاب أن يقنع والده بذلك وهو النابغ في دراسته البالغ مرحلة «السطوح». وهي درجة علمية متقدمة، لم يتبق له بعدها سوى مرحلة «الاجتهاد» وكان يُنادى حينها بـ: «الشيخ الهَجَري» نسبة إلى هَجر «الأحساء». من يستمع للكاتب والشاعر محمد العلي، وهو يتحدث إليه مباشرة، ربما لا يجرؤ على طرح مثل هذا السؤال ـ إن كان فكر في ذلك ـ ولكنه سيعثر على الإجابة من الشخصية القوية التي يتمتع بها العلي. وهي «قوية» في إجاباتها المحددة والصارمة، وفي هيجانها أو بركانها المخيف عند إجابته على سؤال يخص اللغة والشعر أو المجتمع أو التاريخ، و«القوية» في صمته القاتل حين لا يجد ما يستحق القول. شخصية واضحة وثابتة على قناعاتها ومواقفها، لم تتغير منذ أول قصيدة وأول مقال إلى آخر مقال سيكتبه.
ولد الشاعر محمد عبد الله العلي في مدينة العمران في الأحساء عام 1932، بها نشأ على يدي أبيه فتعلم مبادئ القراءة وختم القرآن الكريم في الكتاتيب. وعندما لاحظ والده وعيه ويقظته في عمره المبكر أي وهو في عمر الثانية عشرة، ذهب به إلى النجف الأشرف في العراق ليحضر الدروس والعلوم الدينية في المساجد. غادر الأحساء تاركا أصدقاء طفولته وحارة ضيقة ومظلمة لم تطأها بعد مصابيح الكهرباء ولا أسفلت الشوارع، ولم تصلها بعد الكتب أو الصحف. غادرها تاركا النخيل وراءه، لكن النخلة لم تتركه، انتصبت في شعره وفي همومه، ظلت ماثلة أمامه، لأن والده كان فلاحا وصاحب أملاك كثيرة من البساتين والنخيل في العراق، وهذا أحد الأسباب التي كانت وراء انتقال أسرته إلى العراق آنذاك.
أودعه والده في الحوزة العلمية، وبعد أن انتهى من دراسة بعض المقدمات اندرج في سلك طلاب العلم، استهواه الأدب والشعر فتطلع إلى معرفة الحياة، أدرك أن نبوغه وفطنته وتألقه سيكون على عشب الشعر وفي بساتين اللغة، فأدار رأسه وتحوّل لدراسة اللغة العربية. أما كيف تجرأ هذا الشاب على الحديث مع والده بقراره الذي لا عودة عنه وكيف أقنعه، فلا يسهب العلي في القول، بل يجيب بصرامة: «كان والدي متفهما، وقَبِل على مضض».
أتم دراسة المرحلتين المتوسطة والثانوية في المدارس الحكومية، ثم التحق بكلية الفقه في جامعة بغداد ونال درجة البكالوريس عام 1962. وكانت إقامته في العراق قد أتاحت له الفرصة للالتحام بأسماء أدبية معروفة في الوطن العربي، منذ بواكير حركة التجديد الشعري التي انطلقت من بغداد في الستينيات من القرن الماضي. وقد استفاد من هذا التجديد بابتكار أسلوبه الخاص وقدرة جديدة على استخدام اللغة سواء بالسياق العمودي أو السياق التفعيلي. أما الذي شدّه للشعر الحر فهو ديوان لشاعر سوداني اشتراه من على الرصيف في شارع الرشيد. تجاوب بشكل سريع مع نبضات الحياة الجديدة التي بدأت تتشكل في الخارطة الثقافية العربية مما أثمر شاعرا مجددا ولكنه يعتبر شاعراً مقلاً، رغم انه بدأ كتابة الشعر قبل أن يبلغ العشرينات من عمره، ولا تتجاوز قصائده حتى اليوم الأربعين قصيدة.
قصائده قليلة والكم الأكبر منها كتبه في ستينات القرن الماضي. وهي الفترة التي انتفض فيها الشعر في أنحاء الوطن العربي، وبين فترة وأخرى ينشر في زواياه الصحفية قصائد حسب موازين القصيدة الحديثة في السياق التفعيلي، وعادة ما تعبر هذه القصيدة عن حالة تحل محل الزاوية الصحفية. في أواخر الستينيات بدأت مرحلة جديدة في شعره بقصيدة «في الغابة»، وفي تلك الفترة شكّل مع مجموعة من أصدقائه في العراق أسرة أدبية عرفت بـ«أسرة الأدب اليقظ»، وهي تهدف إلى معارضة الجو الكلاسيكي في الشعر. بدأ اهتمامه بالماء كرمز كبير من رموزه في العام 1967 من خلال قصيدته «العيد والخليج»، وبعدها أصبحت مفردة الماء/ البحر حاضرة في شعره ونثره تتكرر في كل قصيدة من قصائده، وتتخذ تجليات مختلفة، ومن ذلك تعبيره عن ألمه وحزنه من الجفاف الروحي والمادي للإنسان.
في العام 1964 عاد من العراق، ليس إلى مسقط رأسه الأحساء، بل إلى مدينة الدمام، ليفاجأ بالصمت يحيط به من كل جانب، ليس له معارف أو أصدقاء أو منتديات أدبية يرتادها. عاد محمد العلي ليجد نفسه في أحضان صمت بعد حياة من الصخب والتوهج تمثّلت في الأمسيات الشعرية والأدبية التي كان أحد فرسانها. أمسيات شعرية صادف أن رأى ذات مرة، خلالها، الشاعر بدر شاكر السيّاب، والتقى ثلاث مرات مع الشاعر محمد مهدي الجواهري.
اشتغل بالتدريس لثلاث سنوات في «مدرسة ثانوية الدمام» ثم في «لجنة الامتحانات» في إدارة التعليم. استمرت خدمته في وزارة المعارف 19عاما، وخلال هذه الفترة تمت إعارته من وزارة المعارف إلى وزارة الإعلام كرئيس تحرير لجريدة «اليوم» لمدة عامين. وفي «اليوم» تعززت معرفة محمد العلي بالشاعر علي الدميني وبالقاص جبير المليحان، اللذين ما زال يحمل لهما الود العميق. ، عمل في العام 1986 مشرفا تربويا في الهيئة الملكية في مدينة الجبيل حتى تقاعد من التعليم عام 1993.
توقف عن الشعر منذ عام 1976 حتى 1982، وهي فترة الطفرة المالية التي انشغل فيها الناس بالبحث عن الذهب. وكان العلي يسخر من انشغال الناس هذا، وكان ذلك يبعث فيه الحزن والألم. وفي سنة 1982 بعد أن هدأت العاصفة قال العلي قصيدته «غبار» وفيها تعليق على ما حدث خلال الطفرة.
لم يجمع قصائده بين دفتي كتاب وسيبقى شعره متناثرا، ولا يملك أي دافع لجمعه. إنه مثل باقة عصافيره، أطلقها ذات صباح لأنه يدرك الفرق بين الفرحة بالطيران والقفز داخل القفص. هذا ما كان مقتنعا به، إلا أن عزيزة فتح الله، زوجة الكاتب محمد القشعمي قامت بجمع قصائده وزواياه الصحفية وحواراته ومحاضراته في كتابين، صدرا معا في العام 2005، تحت عنوان «محمد العلي دراسات وشهادات»، «محمد العلي: شاعرا ومفكرا». توضّح عزيزة فتح الله سبب جمع تراث العلي في مقدمة كتاب «العلي شاعرا ومفكرا» بالقول: كنت معجبة به إنسانا وشاعرا، فكرت أن أهديه شيئا لا يمحوه الزمن، وبعد أن حاولت أن أدفعه مثل باقي أصدقائه إلى كتابة شيء للتاريخ، كان دائما يتهرب، جاءتني فكرة أن أجمع لقاءاته الصحفية وكتاباته وقصائده...». ولكن هل كان محمد العلي فرحا بما قامت به عزيزة فتح الله ، يقول العلي: كانت تأتيني بصحبة زوجها محمد القشعمي، وكنت أجيب على أسئلتها وأوفر لها ما تريد. ولكن ذلك لم يفرحني ابدأ، وكنت أتعامل مع الأمر وكأنه لأحد غيري».
حاول أن يكتب قصيدة النثر ووضع الشاعر محمد الماغوط مثالا له، وفي أول محاولة مزّق أوراق المحاولة ولم يعد إليها مرة أخرى.
يأخذ عليه البعض من القراء أنه يكتب ما لا يُفهم في كتاباته الصحفية التي يغلب عليها جدل الفكر العربي المعاصر ومعركة الحداثة وهموم الثقافة والمستقبل، ولكنه يجيب كما أجاب ابو تمام: ولماذا لا تفهم ما يقال أو «ما أكتب». وفي مقالاته الصحفية استطاع العلي خلق أسلوب خاص يتسم بالإيجاز، يعمل على ترميز اللغة، ويتخذ الرمز مطية في كتاباته، وللحالة الاجتماعية دخل كبير في خلق هذا النوع. ورغم أن الكتابة الصحفية تقترب من الناس إلا أنه في جميع كتاباته لم يكن بيديه إلا أن يكون قريبا من الشعر.
«أبوعادل» يعتبره الكثيرون، رائد الحداثة في السعودية، إلا أنه في كل حواراته الصحفية يكرر أن رائد الحداثة هو الشاعر محمد حسن عواد. دعم محمد العلي الشعراء الشباب المبدعين والقصيدة الحديثة، ولا زال يدعمها بصوت عال، وهو في عمر الرابعة والسبعين من عمره. هو الآن أكثر تفاؤلا بالساحة الأدبية السعودية بمختلف تياراتها الأدبية، ويتابع بشغف نتاج الشباب السعودي في الشعر والرواية والقصة، تم تكريمه في الاثنينية للأستاذ عبد المقصود خوجة في مدينة جدة في 1986.
الأحساء: جعفر عمران
لاتوجد تعليقات بعد
محرر الموقع