عبورٌ بين دولتين زمنيَّتين
إنّ العبور بين مرحلتين زمنيَّتين اجتماعيتين متناقضتين تقريباً هو أشبه بعبور أسلاك شائكة وحواجز أسمنتية وحقول ألغام بين دولتين عدوَّتين لا تنفكَّان في حرب قائمة على ساقَيْهَا، فلا يخلو الأمر من التضحيات التي تمتدّ من الجراح الطفيفة حتى الموت. وحسب تعبير الشاعر الألماني الكبير (ريلكه) في هذه اللفتة (الأزمان هي المقاومة)، فإنَّ كلَّ زمن يحاول جاهدا أن يحافظ على وجوده وهويّته وملامحه بغضّ النظر عن جماله من عدمه.
هذه الحقيقة جعلت المواجهة بين المرحلتين أكثر شراسة سواءً على صعيد العمران في حداثته وتطوُّراته، أو حتى على صعيد الإنسان في تقاليده وأعرافه إنّني أتذكّر قريتي جيّداً وأتذكَّر حينما كان زقاقنا فقيراً مثلنا، وكانت جدرانه ممزّقة الملابس، وبيوته لا تملك أن تضع لها أبواباً، وأرضيتُّه عارية من غلائل الأسفلت.. حينما كان ذلك، كانت عقولنا مشرعةً لاستقبال الخرافات، واحتضان كلّ ما يتناقض مع العقل برحابة الرضا والطمأنينة. حتى إذا ابتدأنا بتجاوز هذه المرحلة الفقيرة على المستوى المادِّي والعمراني، كان من الطبيعي أن نتجاوزها على مستوى التفكير، خصوصاً وأننا في عصرٍ ما عادت تتوهّج فيه الخرافات من فرط ما ارتفع الحجاب عن مساحة كبرى من عالم المجهول.
بقيت القريةُ جالسةً على ضفة الزمن الأوَّل جلوس نُصُبٍ تذكاريٍّ في متحف الذاكرة لا تعرف كيف تسير إلى المستقبل من فرط ما هي متشبِّثة بحاضرها، وكأنما قدرٌ غيبيٌّ قد جمَّدها في ثلاجة الوقت، بينما كان الزمن الجديد يُمَسِّدُ بوعيه الصقيل عصاً غليظةً من الأفكار الواعية ليجلد بها ظهر ذلك النُّصُبِ التذكاريِّ الجامد من أجل دفعه إلى الأمام وصناعة المرحلة الجديدة بكلِّ ملامحها وعلاماتها. زمنان يتقاتلان، ولكنّ التاريخ واثقٌ بأنه سوف يرمي بنفسه في معسكر الزمن الجديد في نهاية المعركة لأنَّ تلك هي طبيعة الحياة التي تعرف كيف تراوغ العقبات وتواصل مسيرتها مهما كلَّفتها المسيرةُ من عَنَتٍ ومشقَّة.
العمرانُ كائنٌ حيٌّ مثل الكائنات الأخرى فهو يولد ويعيش ويتأنَّق ويتطوَّر ويحمل هُوِيَّة عصره.. ويموت كذلك. وعندما بدأ العمرانُ يتسلَّل ببطء السلحفاة إلى طبيعة المباني والشوارع في القرية.. شعرتُ بأنَّ هذه الحداثة العمرانيَّة بدأت تنعكس على طبيعة النفوس وماهيَّة التفكير.. فاتّساع الشوارع.. مثلاً .. جعل مدى النظر أبعد ومدار الرؤية أوسع فكأنما جغرافيا المكان النامية بدأت تعيد تشكيل تضاريس الذوات، وكأنما تثقيف الحجر وتهذيبه هما اللذان قادا إلى إرهاصات تثقيف العقل وتشذيبه مِمَّا حدا بالقرية لأن تجترح الخطوة الأولى للانتقال من معنىً إلى معنى أرحب ببطء شديد -كما قلت سابقا- لأن الخطوة التي تختصر المسافة كاملةً لا تأتِي دفعة واحدة. ذلك النُّصُبُ التذكاريُّ أو التمثال الحجريُّ انتفض والقرية بدأت تفقد معناها القديم وتفلت من قبضته.. هذه الحقيقة جعلت المواجهة بين المرحلتين أكثر شراسة سواءً على صعيد العمران في حداثته وتطوُّراته، أو حتى على صعيد الإنسان في تقاليده وأعرافه. ولعل إشارة المرور الأولى التي انتصبت على شارع القرية الرئيس لكبح جماح السيارات القليلة التي كانت تعبر من خلال ذلك الشارع المغلوب على أمره .. لعل هذه الإشارة كانت هناك لتوقفَ مركبة الزمن القديم أمام لونها الأحمر وتفتح لونها الأخضر أمام حركة مركبة الزمن الجديد الذي لن يتوقَّف أبدا.
لاتوجد تعليقات بعد
جاسم الصحيح